السبت، 10 مايو 2008

تاريخ مشيخة الأزهر


تأرجح المشيخة بين الانتخاب والتعيين

أحمد تمام**- 12/05/2005


يتردد كثيرا في أدبيات كتب التراجم والتاريخ اقتران لقب شيخ الإسلام ببعض الأئمة الأعلام، من أمثال ابن تيمية، وابن حجر العسقلاني، وزكريا الأنصاري. ولم يُعرَف هذا اللقب في القرون الهجرية الأولى على الرغم من امتلائها بكبار التابعين وأصحاب المذاهب الفقهية، وفحول الحفاظ والمحدثين، وكلهم جدير بأن يحمل هذا اللقب الكبير.

مشيخة فخرية لا وظيفية

وأقدم من أطلق عليه هذا اللقب هو عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي، المتوفَّى سنة 481 هـ. وتذكر كتب التاريخ أن نظام المُلك وزير السلطان السلجوقي مُلكشاه طلب من فخر الدولة وزير الخليفة المقتدي العباسي أن يمنح الخليفة الإمام الهروي لقب شيخ الإسلام، فوافق الخليفة، وأرسل في سنة 474 هـ إلى الإمام الهروي الخلعة باسم "شيخ الإسلام وشيخ الشيوخ والحكماء، أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري".

وتوالى إطلاق هذا اللقب على كبار الأئمة من أعلام المسلمين، دون أن تكون له دلالة وظيفية يترتب عليها إجراءات معينة، وإنما يطلق من باب تكريم النابهين من العلماء.

العثمانيون يؤسسون للمشيخة الرسمية

وظل اللقب خاليا من أي مضمون وظيفي حتى قامت الدولة العثمانية، وأصبح منصبا رسميا، وكان يطلق على شيخ الإسلام أول الأمر "مفتي العاصمة"، وأحيانا "المفتي الأكبر"، ويعتقد أن السلطان محمد الفاتح هو أول من استحدث لقب شيخ الإسلام في تاريخ الدولة العثمانية بعد أن فتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، ونقل عاصمة بلاده إليها وصارت تعرف بإستانبول.

وتمتع شيخ الإسلام في الدولة العثمانية بمركز مرموق للغاية، فهو رئيس هيئة العلماء، ويتقدم في البروتوكول العثماني على الصدر الأعظم (رئيس الوزراء). فعند ذهابه لمقابلة السلطان يخف السلطان لاستقباله متقدما سبع خطوات، ويُسمَح للشيخ بتقبيل كتفه، على حين لم يكن يتقدم لاستقبال الصدر الأعظم والوزراء أكثر من ثلاث خطوات، ولا يُسمَح للصدر الأعظم إلا بلثم ذيل ثوبه.

وكان السلطان العثماني هو الذي يتولى اختيار شيخ الإسلام من بين كبار رجال القضاء والمفتين، ويصدر فرمانا سلطانيا بتعيينه في هذا المنصب، وكانت الدولة تخصص له أحد كبار ضباط القصر السلطاني لمساعدته في ارتداء ملابس التشريفة.

وكان الصدر الأعظم والوزراء - وفي بعض الأحيان السلطان نفسه - يلتمسون رأيه في بعض المسائل المهمة، كما كانوا يعرضون عليه مشروعات القوانين الوضعية قبل إقرارها بصفة نهائية، ويطلبون منه الرأي في مدى مطابقتها لمبادئ الشريعة الإسلامية.

وعلى الرغم من كون شيوخ الإسلام يُعيَّنون من قبل السلطان بفرمان منه، فإن معظمهم لم يكونوا أداة لينة في أيدي السلاطين يتصرفون بها كيف شاءوا، وكانت فتواهم ذات شأن كبير في سياسة الدولة، فكان السلطان العثماني لا يقدم على حرب دون أن يستصدر من شيخ الإسلام فتوى يقرر فيها أن هذه الحرب لا تتعارض مع الدين، وأن لها أسبابها الشرعية التي تدعوا لقيامها، يعني كونها حربا عادلة.

وكانت فتاوى شيخ الإسلام ملزمة، ولا يستطيع السلطان أن يمسها من قريب أو من بعيد.

وحين حاول السلطان سليم الأول أن يعرض على رعاياه المسيحيين اختيار أمرين لا ثالث لهما، إما اعتناق الإسلام وإما القتل، وقف له شيخ الإسلام وأصدر فتوى تمنعه من التعرض للمسيحيين وتعطيهم الحق في ممارسة شعائرهم بحرية كاملة، وأن تتكفل الدولة بالمحافظة على أرواحهم وممتلكاتهم، ما دام سلوكهم العام لا تشوبه شائبة.

وأُبلِغَت هذه الفتوى إلى البطريرك اليوناني في إستانبول بصفته رئيس أكبر ملة غير إسلامية في الدولة، واعتبر هذه الفتوى ميثاقا أو مستندا يحمي الرعايا من غير المسلمين من أي اضطهاد قد يتعرضون له. وقد أذعن السلطان سليم الأول لفتوى شيخ الإسلام.

ولا أدَلّ على مدى النفوذ الذي بلغه شيخ الإسلام من كونه الوحيد الذي له الحق في إصدار فتوى عزل السلطان، بناء على أنه انحرف عن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية أو أصيب بمرض عقلي لا يُرجَى شفاؤه. وقد تم عزل عدد من السلاطين العثمانيين بناء على فتوى شيخ الإسلام، مثل السلطان سليم الثالث، والسلطان عبد العزيز.

وعندما آلت السلطة في الدولة العثمانية إلى جماعة الاتحاد والترقي عقب انقلاب سنة 1909م، حرص النظام الجديد على الانتقاص من سلطة شيخ الإسلام وسائر علماء المسلمين، وتجريدهم من اختصاصاتهم، ثم لم تلبث أن ألغيت وظيفة شيخ الإسلام مع إلغاء نظام السلطنة سنة 1922م، وكان آخر من تولى هذا المنصب هو الشيخ مصطفى صبري الذي لجأ إلى القاهرة وعاش بها حتى توفي سنة 1373هـ = 1954م.

بين شيخ الإسلام وشيخ الأزهر

كان منصب شيخ الإسلام أقدم في الظهور من منصب شيخ الأزهر الذي نشأ بعد أكثر من سبعة قرون من قيام الأزهر، ويعد الشيخ محمد بن عبد الله الخرشي، المتوفَّى سنة 1101 هـ = 1690م أول من تولى مشيخة الأزهر. ويصف الجبرتي هذا المنصب بأنه أعظم مناصب العلماء.

وجدير بالذكر أن هذا المنصب ظهر ومصر تابعة للدولة العثمانية التي لم تتدخل في عملية اختيار شيخ الأزهر، ولم تفرض عالما عثمانيا لتولي هذا المنصب، على الرغم من قدرتها على ذلك.

وكان تعيين شيخ الأزهر يتم باتفاق شيوخ الجامع وعلمائه فيما بينهم، فإذا أجمعوا أمرهم على اختيار أحد العلماء أخطروا ديوان أفندي سكرتير عام ديوان القاهرة، ليقوم بإبلاغ الباشا العثماني (الوالي) باسم الشيخ الجديد، كما يخطرون شيخ البلد وهو كبير الأمراء المماليك والرجل الثاني بعد الباشا العثماني.

ويقام حفل كبير بهذه المناسبة، ويتولى الوالي أو شيخ البلد إلباس شيخ الأزهر الرداء الرسمي الذي يسمى "فرو سمور" وكان يُخلَع على الذين يتولون المناصب الكبرى في مصر، وكان هذا الإجراء من قبل السلطات الحاكمة إقرارا منها بتعيين ما اختاره العلماء شيخا للجامع الأزهر.

وباختيار شيخ الأزهر يصبح هو الرئيس الأعلى للجامع، وله الإشراف المباشر على العلماء والطلبة، وله مخصصاته النقدية والعينية، كما يصبح بحكم منصبه عضوا في الديوان الكبير بالقاهرة، الذي كان يعقد برئاسة الباشا العثماني أو نائبه.

وترتب على الاختيار الحر لمنصب شيخ الأزهر أن تبوأه علماء من مختلف المذاهب الفقهية من الشافعية والمالكية والحنفية. ومن بين شيوخه من كان كفيف البصر، وهو الشيخ حسن القويسني، الذي تولى المشيخة بعد الشيخ حسن العطار في عهد محمد علي، وأحد شيوخ الأزهر وهو الشيخ محمد العباس المهدي كان جده لوالده نصرانيا أسلم على يد الشيخ الحفني الإمام الثامن من شيوخ الأزهر.

وجاء الاختيار الحر بثلاثة من أسرة واحدة: جد وابن وحفيد، تولوا مشيخة الأزهر في سابقة لم تحدث من قبل في تاريخ الأزهر، وهم الشيخ أحمد العروسي (1192-1208 هـ = 1778- 1793م) وابنه الشيخ محمد أحمد العروسي (1233-1245هـ = 1818- 1829م)، والشيخ مصطفى محمد أحمد العروسي، الذي تولى المشيخة سنة (1281 هـ = 1865م).

وكان شيخ الأزهر إذا عُيِّن يظل في منصبه حتى وفاته، حتى إنه لما اضمحلت صحة الشيخ الباجوري لكبر سنه تقرر إقامة أربعة وكلاء عنه: اثنين من الشافعية، وواحد من الحنفية، وآخر من المالكية، برئاسة الشيخ مصطفى العروسي لمباشرة شئون الأزهر، حتى توفي الشيخ الباجوري سنة 1277هـ = 1860 م.

السلطة تتدخل حال الخلاف

واختيار العلماء لشيخ الأزهر كان يتم في غالب الأحيان في هدوء ودون صخب أو ضجيج، إلا في حالات قليلة احتدمت فيها المنافسة بين المرشحين، واستحال الاتفاق على شيخ معين، وفي هذه الحالات كان يتدخل الأمراء المماليك إلى جانب المرشح الذي يبدو لهم أن معظم المشايخ يؤيدونه، وكان هذا التدخل يحسم الموقف نهائيا إذا جاء في الوقت المناسب وقبل أن يتدهور الموقف بين المتنافسين وأنصارهم، ويتحول إلى معركة حامية مثلما حدث بين الشيخ عبد الباقي القليني والشيخ أحمد نفراوي حين تنافسا على منصب مشيخة الأزهر عقب وفاة الشيخ محمد النشرتي شيخ الجامع الأزهر في (ذي الحجة 1120 هـ = مارس 1709 م).

ومع تولي أسرة محمد علي الحكم في مصر، بدأ التدخل واضحا في عملية اختيار شيخ الأزهر، وأول مظاهر ذلك كان بعد وفاة الشيخ عبد الله الشرقاوي في (شوال 1227 هـ= أكتوبر 1812 م)، فحين اختار المشايخ محمد المهدي للمشيخة وهنأوه بذلك وانتظروا صدور القرار من محمد علي كما هو متبع في ذلك، فوجئوا بأن الوالي لم يأخذ برأيهم وعين الشيخ محمد الشنواني شيخا للأزهر.

وظل منصب شيخ الأزهر محاطا بالهيبة والوقار، ولا يستطيع أحد من الولاة عزل صاحبه، حتى أقدم الخديوي إسماعيل على عزل الإمام مصطفى العروسي الشيخ العشرين في سلسلة مشايخ الجامع الأزهر في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الجامع الأزهر، وقد شجعه ذلك على تكرار مثل هذا العمل والاجتراء، الأمر الذي عرَّض المنصب الكبير للاهتزاز، حتى تولاه خمسة في عهده، بحيث لم يبق فيه أحدهم أكثر من ثلاث سنوات.

ظهور جماعة كبار العلماء

ومع الجهود المبذولة لتطوير جامع الأزهر وإصلاحه، ظهرت جماعة كبار العلماء سنة (1239هـ = 1911 م) في عهد المشيخة الثانية للشيخ سليم البشري (حيث تولى المشيخة في 1317هـ لكنه استقال من منصبه 1320هـ ثم عاد إليه مرة أخرى 1327هـ واستمر به حتى وفاته) وكانت الجماعة تتكون من ثلاثين عالما من صفوة علماء الأزهر، واشترط في دخولهم هذه الهيئة ألا تقل سنهم عن 45 سنة، وأن يكون مضى عليه وهو مدرس بالجامع الأزهر عشر سنوات على الأقل، من بينها أربع سنوات في القسم العالي، وأن يكون معروفا بالورع والتقوى.

وكانت هذه الجماعة هي أكبر هيئة علمية شرعية في العالم الإسلامي، ولا ينال عضويتها إلا الجهابذة من علماء الأزهر، وطريق العضوية رسالة علمية دقيقة ينال بها شرف الانتساب إلى هذه الهيئة، وتغير اسم الهيئة في عهد الشيخ المراغي إلى هيئة كبار العلماء.

ونص قانون الأزهر أن يكون اختيار شيخ الجامع الأزهر من بين جماعة كبار العلماء، وكان ذلك يضمن ما يجب أن يكون عليه شيخ الأزهر من العلم والمعرفة والسمعة وحسن الخلق.

غير أن هذا لم يمنع من تدخل الأهواء السياسية في تخطي هذه الهيئة العلمية في اختيار شيخ الأزهر، والتحايل على شروط الترشيح، مثلما فعلت في اختيار الشيخ مصطفى عبد الرازق، وهو على علمه وسمعته الطيبة وأخلاقه الدمثة لم يكن من بين هيئة كبار العلماء، وكان ترشيحه للمنصب يعني صدام الحكومة المصرية مع الهيئة، وهو ما حدث بالفعل، فتقدم ثلاثة من كبار أعضائها باستقالاتهم احتجاجا على ما أقدمت عليه الحكومة، ولم يكن رفضهم اعتراضا على شخص مصطفى عبد الرازق أو تقليلا من شأنه، ولكنه كان احتراما للقانون ودفعا لطغيان السلطة التي تريد أن تعبث بهيبة علماء الأزهر ومكانتهم.

تطوير الأزهر يلغي الهيئة

وبصدور القانون رقم 103 لسنة 1961م الخاص بتطوير الأزهر، ألغيت هيئة كبار العلماء وحل محلها ما عرف باسم مجمع البحوث الإسلامية، ويتكون من خمسين عضوا على الأكثر، من بينهم ما لا يزيد عن عشرين من غير المصريين من كبار علماء العالم الإسلامي، ولا تسقط العضوية إلا بالوفاة أو الاستقالة أو العجز الصحي، والمجمع هو الذي يقرر إسقاط العضوية، وهو الذي يملأ المكان الشاغر بانتخاب أحد المرشحين، بالاقتراع السري وبأغلبية الأصوات.

وجعل هذا القانون شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأي في كل ما يتصل بالشئون الدينية وفي كل ما يتعلق بالقرآن وعلوم الإسلام، ويعيَّن بقرار من رئيس الجمهورية من بين أعضاء مجمع البحوث الإسلامية.

غير أن هذا القانون ضيق سلطات شيخ الأزهر، وغلَّ يده عن التصرف، بأن جعل للأزهر وزيرا لشئونه يجمع في يديه كل السلطات، وهو ما عجل بحدوث أزمة قوية بين شيخ الأزهر وبين الوزير الذي يكاد يسلب المنصب الكبير كل صلاحية، وظلت الأزمة قائمة منذ عهد الشيخ محمود شلتوت حتى تولى الشيخ عبد الحليم محمود مشيخة الأزهر فكان له موقف آخر، وقدم استقالته حرصا على مقام الإمام الأكبر، ولم يعد إلى منصبه حتى تغير القانون القديم وصدر قانون جديد في سنة 1975 يلغي منصب وزير الأزهر، ويعطي كل صلاحياته لشيخ الأزهر.

وكان الشيخ عبد الحليم محمود من طراز مختلف فلم تقيده اللوائح والقوانين، وإنما طغت شخصيته عليها، واستشعر حجم المسئولية الملقاة على عاتقه باعتباره إمام المسلمين الأكبر والمدافع عن قضاياهم، وكان له في كل موقف رأي، وفي كل مسألة بيان، فوقف أمام زحف الفكر الشيوعي في مصر، ونادى بأعلى صوته مطالبا برد أوقاف الأزهر إليه، وأفتى بإثم من اغتصبها، وطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، وكوَّن لجنة بمجمع البحوث الإسلامية لتقنين الشريعة الإسلامية في صيغة مواد قانونية، وتوسع في التعليم الأزهري، وتدخل لوقف الحرب الدائرة بين المغرب والجزائر سنة 1976م، وأرسل برقيات ورسائل إلى زعماء العالم العربي للتدخل في إيقاف نزيف الدم، وقد نجحت مساعيه في إيقاف الحرب، وبلغ من تقدير الرئيس السادات له أن كتب له ردا على برقيته بقوله:

"تلقيت بالتقدير برقيتكم بشأن المساعي لحل الأزمة بين الجزائر والمغرب، وأود أن أؤكد لكم أن مصر تقوم بواجبها القومي من أجل مصالح العرب والمسلمين، وما زال السيد محمد حسني مبارك نائب الرئيس يقوم بمهمته المكلف بها، أرجو الله عز وجل أن يكلل جهوده بالنجاح والتوفيق، كما أدعوه تعالى أن يوفقنا دائما لنحقق للإسلام والمسلمين كل خير وعز وازدهار...".

وإذا كان الشيخ عبد الحليم محمود قد عُيّن من قبل الدولة في هذا المنصب، فإنه لم يكن أسير هذا الاختيار، وتحرك في ضوء ما خوَّله له القانون من حقوق، واستثمر ذلك في صالح المسلمين وقضاياهم، وليس كل من يُختار لمشيخة الأزهر على شاكلة هذا الشيخ الجليل، ولذا صار من الضروري أن يُترك لكبار علماء الأزهر أن يختاروا شيخه بحرية كاملة، مثلما كان من قبل، لأن في هذا مصلحة للأزهر ومصلحة للمسلمين.

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة الإلكترونية